لصحافة علم وفن
الصحافة علم وفن! قد يتبادر، إلى الأذهان، أن هناك تناقضاً، في هذا العنوان، إذ كيف يمكن أن تكون الصحافة علماً وفناً، في وقت واحد، فالعلم يتناول موضوعات خاصة بقوانين علمية محددة، بينما الفن لا يخضع لقوانين محددة، بل يخضع للإبداع الفردي، أو بمعنى آخر، إن العلم موضوعي، والفن ذاتي.
وهذا الموضوع مثار جدل كبير. فالبعض يرى أن الصحافة فن، والراغب في العمل فيهـا لا بد أن يكون موهوباً. وأن الصحفي يولد، وفي يده القلم، وفي رأسه الفكرة، على حد تعبير بعضهم. بينما يؤكد آخرون أن الصحافة مهنة، كسائر المهن، في المجتمع، تحتاج إلى استعداد طبيعي، ولكنها، كأي مهنة، لها مكونات ثلاثة هي: المعارف، والمهارت، والقيم، التي يمكن اكتسابها، وتطويرها، تعليماً وتدريباً.
فالذين يقولون إن الصحافة فن يرون: "أن الصحافة استعداد طبيعي، قبل كل شيء، ولكي يكون الإنسان صحفياً وجب عليه أن يستجيب للنداء، الصادر من أعماقه، وأن تتوافر فيه الموهبة، والرغبة الملحة، في ملاحظة الحياة والناس".
وعلى الجانب الآخر هناك من يقول بضرورة الدراسة والتجربة، مثل جوزيف بوليتزر الصحفي، المجري الأصل، الذي أصبح ناشر النيويورك ورلد، ورئيس تحريرها، في أوائل القرن العشرين، فمن رأيه "أن كل ذكاء في حاجة إلى من يتعهده، حتى لو سلمنا بأن الاستعدادات الطبيعية هي مفتاح النجاح، في جميع ميادين النشاط الإنساني"، وأن الصفات الخلقية ـ وهي لازمة للصحفي الناجح ـ تنمو بالعلم والتجربة.
ويشير بوليتزر، كذلك، إلى أن الصحفيين، الذين لم يؤهلوا، إنما يتعلمون مهنتهم، على حساب الجمهور. ويضيف قائلاً: "لا يكفي أن يكون صحفي الغد متعلماً، تعليماً جامعياً عاماً، بل لا بد من إعداده، لمهنته الجديدة، إعداداً خاصاً". ويجيب بوليتزر على الذين يدعون أن الصحافة، في ذاتها، ليست مادة، يمكن تدريسها، بأنه: "كلما قطع المعترضون بأن هناك أشياء لا يمكن تدريسها، برهنوا على ضرورة ما يمكن تدريسه. إن المدرسة تكمل، ولا توجد. وإن كنا نحكم، على قيمة التعليم، من قدرته على إخراج صفات عقلية، من العدم، فإنه لا يكون، أمام معاهد التعليم، من رياض الأطفال إلى الجامعة، إلاّ أن تغلق أبوابها، فيتعطل جميع المشتغلين بالتعليم".
ويرى جوزيف بوليتزر، كذلك، أن الصحافة هي أكثر المهن حاجة إلى أوسع المعارف، وأعمقها، ويسأل هل يصح أن تُترك هذه المهنة، ذات المسؤوليات الكبيرة، تُمارس من دون أي تأهيل منتظم.
وجدير بالذكر أن بوليتزر أوصى، عند وفاته، بمليونين ونصف مليون دولار، لتأسيس مدرسة صحافة، وإنشاء جوائز سنوية باسمه لأحسن إنتاج، في مجال الصحافة والأدب.
وهناك من يقول: إذا كان لا بد للجامعات، من أن يكون لها دور معلوم، في التدريب المهني للصحفيين، فليكن ذلك، على المستوى فوق الجامعي. ومن أصحاب هذا الرأي، توم هولكنيسون، الذي عمل رئيساً لتحرير صحيفة بيكتشربوست، من 1940 إلى 1950، وأصبح فيما بعد، مديراً لمركز الدراسات الصحفية، في جامعة كارديف البريطانية، ويعدد ما يحمله على الاعتقاد بذلك، قائلاً:
1. إن الصحافة، تختلف عن سائر المهن الفكرية الحرة، كالطب والهندسة والمحاماة، من حيث إن العمل فيها لا يقتصر على لون واحد، من الألوان المتعددة للمعرفة. بل هي مهنة مفتوحة، لا مغلقة، تحتاج إلى ثقافة ذوي المهن الفكرية الأخرى. فالطبيب، مثلاً، بوسعه أن يكون مراسلاً، أو محرراً طبياً، كذلك المحامي أو المهندس. لكن ليس بوسع من تخصص، في الصحافة وحدها، أن يكون طبيباً أو مهندساً أو محامياً، ومادام الأمر كذلك، فإن التدريب المهني فوق الجامعي للصحفيين، سيتيح الفرصة للصحافة كي تستفيد، من كل ذوي المعرفة المتخصصة، على اختلاف ألوانهم.
2. إن التدريب المهني للصحفيين، على المستوى فوق الجامعي، هو أقل أنواع التدريب المهني تكلفة، وأسرعها عائداً، كما إنه أقلها ازدحاماً بالمواد المختلفة، التي يدخل بعضها في اختصاصات الشُّعب، والكليات الجامعية، الأخرى.
3. إن مثل هذا التدريب سيؤدي إلى المزيد من التعاون والتنسيق، بين الصحافة، والجامعات، فقد تطلب بعض المؤسسات الصحفية، من إحدى الجامعات، تخصيص دورة تدريبية، على المستوى فوق الجامعي، لتدريب من يعملون فيها كمراسلين تربويين، ومثل هذا التدريب، سيعين المراسلين حتماً على فهم أحدث التيارات والأفكار، في عالم التربية.
جرت أولى المحاولات، في ميدان التعليم الصحفي، في داخل "واشنطون كوليج"، عام 1869، وبعد سنوات قلائل، درست مادة صف الحروف والاختزال، وكان يقوم، بتدريس المادتين، رئيس تحرير جريدة لكسنفتي جازيت، وكان الطلبة يعملون في تحرير المواد، وأعمال المطبعة. وبعد ذلك غزت فكرة تدريس الصحافة كثيراً من العقول، وانتشرت، في أنحاء الولايات المتحدة، على الرغم من أن الصحافة كانت في أطوارها الأولى، وكان لكل واحد، من القائمين على هذه الدراسة، طريقته الشخصية في التدريس. وتضمنت مناهج الدراسة: تاريخ الصحافة، وإصدار الصحف، وقانون القذف، والإدارة، ومحاضرات عن أهم القضايا العالمية، في الداخل، والخارج، ودراسات تطبيقية، في التحرير بأنواعه، إلى جانب المحاضرات العملية، التي كان يلقيها أرباب هذه المهنة، وتتضمن ملاحظاتهم وخبرتهم وتجاربهم.
أمّا في أوروبا، فكانت الصحافة هي مهنة الأدباء، ثم بدأت الموضوعات الصحفية تهتم بالنواحي الاجتماعية، والتاريخية والاقتصادية ولم تهتم، في بادئ الأمر، بالنواحي الفنية العملية، فلما اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى، ظهرت أهمية الصحافة، في نشر الأنباء، مما دعا إلى الاهتمام بمناهج التدريس على أسس مختلفة. واهتمت كل من ألمانيا والنرويج وبولونيا، بإجراء دراسات خاصة بهذه المهنة، ثم بدأت هذه الدراسات تحتل أمكنة لها، في الجامعات، خاصة في ألمانيا في السنوات الأخيرة، بين الحربين العالميتين، وأصبحت تدرس الصحافة بانتظام في السنوات، التي سبقت الحرب العالمية الثانية، في كثير من جامعات أوروبا. وظهرت أهمية المناهج وكان ذلك، بعد أن أثبتت بعض المناهج قيمتها، في الدراسة، والبحث وظهر التخصص.
ويلاحظ أن بريطانيا على خلاف ما هو متبع، في الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، لا تميل كثيراً إلى نشاء كليات جامعية للدراسات الصحفية، أو الإعلامية، لكنها، مع ذلك، من الدول التي تهتم بالتدريب المهني للصحفيين؛ فقد تضافرت جهود جميع المنظمات الصحفية فيها على تحقيق مشروع قومي للتدريب، هو المجلس القومي لتدريب الصحفيين، وهذا المعهد، أو المجلس، لا يقبل التدريب فيه إلاّ أولئك، الذين يعملون في الصحافة بالفعل. ومن أراد الالتحاق به، عليه أن يبرهن على قدرته الصحفية بشكل عملي، أولاً، وقبل كل شيء، كما إن، لبعض المؤسسات الصحفية الكبرى، برامجها التدريبية الخاصة بها
إن إصدار الصحيفة لم يعد يُنظر إليه، كما كان الحال في الماضي، على أنه عمل أدبي أو فكري فحسب، بل أصبحت الصحافة صناعة قائمة بذاتها، لها اقتصادياتها الخاصة بها. وأصبحت كذلك مهنة لها سمات وخصائص المهن الفنية. وأصبحت جهازاً كاملاً له إدارته الخاصة.
يتضمن جوهر الفن الصحفي، مزيجاً إبداعياً من فن التحرير الصحفي، أو الكتابة بلغة تناسب الصحافة، كوسيلة، وتتسق مع سمات جمهورها، والتصوير الصحفي، والرسوم اليدوية بأنواعها الساخرة، والتوضيحية والتعبيرية، وفن الصور الصحفية والرسوم، ثم الفن الإعلاني، وأخيراً، فن الإخراج الصحفي، الذي يتولى عملية الإبراز والتنسيق والجذب، للمادة الصحفية، وللمادة الإعلانية وتكوين شخصية للصحيفة.
ولإصدار صحيفة (جريدة أو مجلة) لأول مرة لابد من اتخاذ عدة خطوات مهمة قبل الإصدار، هي:
دراسة الجمهور ومعرفة احتياجاته.
1. دراسة الصحف المنافسة.
2. تحديد الهدف من الإصدار.
3. رسم السياسة التحريرية.
4. وضع التصميم الأساسي للصحيفة.
5. اختيار النظام الإنتاجي للصحيفة (مراحل ما قبل الطبع والطباعة).
6. اختيار الكادر البشري المؤهل، وتوزيعه، على الأقسام المختلفة.
7. الحصول على ترخيص قانوني للإصدار، أو التقدم بإخطار.
8. تدبير التمويل اللازم، ووضع الميزانية، وحساب التكاليف.
9. توفير المقر، والتجهيزات التكنولوجية المختلفة، للإصدار.
10. الاتصال بالمعلنين، وحثهم على الإعلان، في الصحيفة.
11. وضع خريطة تنظيمية للصحيفة، تحدد خطوط السلطة، والمسؤوليات والعلاقات وخط سير النص الصحفي، من المحرر إلى المطبعة.
12. الاتفاق مع وكالات الأنباء، ووكالات الخدمات الصحفية، كوكالات الصور والرسوم والمقالات والمعلومات، وكذلك، وكالات الإعلان والتسويق، للاستفادة من خدماتها.
13. إعداد الحملة الإعلانية عن الصحيفة، وجدولتها.
14. إصدار الأعداد التجريبية، (الأعداد الزيرو)، وتحديد موعد نهائي لصدور العدد الأول.
أمّا خطوات إصدار عدد من الصحيفة، وهي الخطوات، التي تتم يومياً، أو أسبوعياً، على عدد واحد من الصحيفة فتتضمن:
1. تقييم العدد الصادر.
2. التخطيط للعدد التالى، ويتضمن ذلك توزيع المهام، على الأفراد، في الأقسام المختلفة.
3. جمع المعلومات، من المصادر الداخلية، والخارجية للصحيفة، من خلال المحررين والمندوبين.
4. مراجعة المواد المجموعة، واستكمالها ميدانياً، أو مكتبياً.
5. التقاط الصور الفوتوغرافية المناسبة للموضوعات، أو الحصول عليها من قسم المعلومات، في بعض الأخبار والموضوعات.
6. تجهيز الرسوم اليدوية التوضيحية والتعبيرية والساخرة.
7. تحرير المواد الصحفية المجموعة في شكل أخبار، وموضوعات صحفية، ومراجعتها.
8. تحرير التعليقات، أو الشروح، المصاحبة للصور الفوتوغرافية، والرسوم اليدوية.
9. جلب الإعلانات الصحفية، ووكالات الإعلان المختلفة، عن طريق قسم، أو إدارة الإعلانات بالصحيفة.
10. تحرير الإعلانات الصحفية، وإخراجها وتنفيذها، على ماكيتات ترسل إلى جهاز التحرير بالجريدة، مقترح عليها الصفحات المطلوب نشرها فيها.
11. تقييم المواد الصحفية، وتحديد صلاحيتها للنشر، بمعنى أن يجري تقييم جميع الأخبار والموضوعات، وتقرير ما إذا كانت صالحة للنشر بشكلها الحالي، أو بعد الاستكمال، أو غير صالحة للنشر، على الإطلاق.
12. الاستقرار على ماكيت، أو تخطيط لمواد العدد التحريرية، والإعلانية، وتوزيعها على الصفحات المختلفة.
13. إخراج الجريدة، بمعنى إعداد الصفحات المختلفة، وفقاً لخطة العدد، وفي إطار التصميم الأساسي للجريدة المستقر عليه، ويعنى ذلك تحديد مواقع الأخبار والموضوعات الصحفية، والإعلانات، داخل الصفحات المختلفة للجريدة، ومساحاتها، وأساليب المعالجة التيبوغرافية لها، ويتضمن ذلك تحديد حجم حروف كل مادة صحفية، واتساع سطورها، والصور والرسوم المناسبة لها.
14. إرسال المواد الصحفية والإعلانية المكتوبة إلى قسم الصف، ومراجعتها، وتصحيحها.
15. إرسال المواد المصورة والمرسومة إلى قسم التصوير ومراجعتها.
16. تجميع المواد المكتوبة والمصورة، وفقاً للماكيت المتفق عليه، في عملية الإعداد، أو المونتاج.
فن التحرير الصحفي
والتحرير الصحفي ـ كخطوة من خطوات إصدار الصحيفة هو العملية اليومية أو الأسبوعية، حسب دورية الإصدار، التي يقوم فيها المحرر الصحفي بالصياغة الفنية، والكتابة الصحفية، أو المعالجة لمضمون المادة الصحفية، أو المعلومات، التي جمعها من المصادر المختلفة، في الأشكال، أو القوالب الصحفية المناسبة، والمتعارف عليها، ثم المراجعة الدقيقة وإعادة الصياغة لها. وتبدأ عملية التحرير الصحفي فور عملية الكتابة الصحفية؛ فالمحرر يكتب المادة، في الشكل، الذي اختاره بنفسه، وقد يكتب المحرر، ويراجعه المحرر المسؤول، أي يحرر ما كتبه. وقد تبدأ العملية، وتنتهي مع المحرر، الذي يقوم بالعمليتين معاً، الكتابة Writing، والتحرير Editing. وتعني كلمة تحرير editing إعداد كتابات الآخرين للنشر، ومنها جاءت كلمة Editor، أي محرر، أو رئيس تحرير. والمحرر الصحفي الناجح هو، الذي ينجح في الكتابة، بلغة صحفية مناسبة وجيدة، مما يجعل هذا النص الصحفي، خبراً كان، أو موضوعاً، لا يحتاج إلى عملية تحرير جديدة، تتضمن المراجعة، وإعادة صياغة بالحذف، أو الإضافة أو تغيير الأسلوب، أو البناء الفني للنص.
والتحرير الصحفي، أو فن الكتابة الصحفية كفن كتابي يختلف عن فن الكتابة العلمية، حيث تعتمد الأخيرة على المصطلحات العلمية، أو الفنية المحددة الدقيقة، التي قد لا يفهمها، إلاّ أصحاب التخصص الدقيق، كما تختلف عن الكتابة الأدبية، التي تعتمد على الخيال، والبلاغة اللفظية، والاستطراد وتخاطب مشاعر المستقبل، وتتوجه إلى قارئ، يبحث عن متعة جمالية وفكرية.
بينما يعتمد التحرير الصحفي، على الأسلوب العلمي الأدبي، أو اللغة الوسطى، التي يسميها البعض، باللغة الصحفية، أو اللغة الإعلامية، ذات الأسلوب الصحفي أو الإعلامي، الذي يفهمه قارئ الصحيفة العادي، وذات الأشكال، أو القوالب الفنية المتميزة، التي يتم، من خلالها، نقل المضمون الصحفي.
والتحرير الصحفي هو نوع جديد من النثر، أضافه أساتذة الصحافة والأدب، إلى أنواع النثر التقليدية (العادي ـ العلمي ـ الفني)، هو النثر العملي، أو الصحفي وذلك بعد ظهور الصحافة، في القرن التاسع عشر، وقالوا إن هذا النثر يقف، في منتصف الطريق، بين النثر الفني، أي لغة الأدب، وبين النثر العادي، أي لغة التخاطب اليومي، وله من النثر العادي، ألفته وسهولته وبساطته ومباشرته وشعبيته، وله من النثر الفني، حظه من التفكير وحظه من عذوبة التعبير. ولعل ذلك المفهوم للنثر العلمي أو الصحفي، هو الذي جعل بعض أساتذة الصحافة يطلق على لغة الصحافة وصف الأدب العاجل. أو الأدب غير الخالد.
الأسلوب الصحفي
الواقع الصحفي يقول: إن هناك أسلوباً صحفياً، أو أسلوباً معيناً، له سمات التحرير الصحفي، وينبع هذا الأسلوب، من عدة محددات، تتعلق بطبيعة الصحافة، كوسيلة اتصال، من حيث حجم الصحيفة، والمساحة المحدودة، وجانبها التقني، وطبيعة دوريتها، أو توقيت إصدارها، الذي يقتضي السرعة والاختصار والتركيز، وبوظيفتها العامة، وهي التعبير عما يحدث، في الحياة اليومية، والتي يطلق عليها الوظيفة الأخبارية ـ كوظيفة أساسية ـ إذ تقوم بنقل الأخبار إلى كل فئات الرأي العام.
ويتخذ التحرير الصحفي أشكالاً أو قوالب خاصة، لها قواعدها المتعارف عليها. وفي النهاية يخرج المقال الصحفي بأنواعه المختلفة ووظائفه المتنوعة. وله تصميماته المختلفة، وفي أحيان كثيرة مع الصور والرسوم المناسبة المختارة.
اتجاهات نشر الأخبار
تبني بعض الصحف منهجها على الصدق، والتثبت من صحة الخبر، قبل كل شيء، وبعضها يبني منهجه على ما يسمى بالسبق الصحفي، حتى ولو ضحى، في سبيل ذلك بالتثبت من صحة الخبر. وكل من المنهجين يستند إلى حقيقة نفسية عند القراء؛ فأصحاب السبق الصحفي يراهنون على الفضول البشرى، والرغبة في الاستطلاع، ومعرفة الأسرار والمفاجآت إشباعاً للغرور، أو ترضية للهفة البشرية.
قد يكون منهج التثبت أكثر جدية، في الصحافة، واحتراماً لرسالتها، بل واحتراماً للقراء، وأصحاب هذا المنهج لا يرون، في صحفهم، مجرد أداة للإعلان، بل سجلاً للتاريخ، ومن ثم قد لا يأنفون من نشر خبر، سبق أن نشرته صحف أخرى، وإن كان بعضها لا يضع مثل هذه الأخبار السابقة في الأماكن البارزة، من الصحيفة، ولا في صفحاتها الرئيسة.
حدث ذات مرة، أن نشرت بعض صحف القاهرة نبأ، تلقته عن إحدى وكالات الأنباء، عن وفاة سلطان باشا الأطرش، زعيم الدروز. وظهرت الصحف في الصباح، وإذا بالأهرام، وحدها، تغفل نشر هذا الخبر، وروجع رئيس تحريرها الصحفي القديم، أنطون باشا الجميل، في هذا الأمر، فكان جوابه: "إن من لم يمت، في الأهرام، لم يمت"، وبالفعل اتضح أن الأهرام كانت قد تلقت الخبر، من الوكالة نفسها كما تلقته الصحف الأخرى، ولكن رئيس تحريرها اتصل بالمصادر العربية والدبلوماسية، في القاهرة ليتأكد من صحة الخبر، قبل نشره، فنفوا له صحته، وعدم علمهم بشيء، من هذا. وبعد ذلك بيوم، أذاعت الوكالة نفسها اعتذاراً، وتصحيحاً للخبر السابق، قالت فيه إن الذي مات كان والدة سلطان باشا الأطرش، لا الزعيم الدرزي نفسه.
وهكذا اختارت جريدة الأهرام التثبت الصحفي، واحترام القارئ، بدلاً من السبق الصحفي، وليس من شك في أن الأفضل هو الجمع بين السبق الصحفي، والتثبت منه، كلما استطاع الصحفي إلى ذلك سبيلاً، وإذا لم يكن بد من الاختيار، فربما كان، من الأصح أخلاقياً، وإنسانياً ووطنياً، تفضل التثبت على السبق الصحفي؛ لأن ثقة القراء واحترامهم رأس مال أدبي كبير للصحافة.
الصحافة علم وفن! قد يتبادر، إلى الأذهان، أن هناك تناقضاً، في هذا العنوان، إذ كيف يمكن أن تكون الصحافة علماً وفناً، في وقت واحد، فالعلم يتناول موضوعات خاصة بقوانين علمية محددة، بينما الفن لا يخضع لقوانين محددة، بل يخضع للإبداع الفردي، أو بمعنى آخر، إن العلم موضوعي، والفن ذاتي.
وهذا الموضوع مثار جدل كبير. فالبعض يرى أن الصحافة فن، والراغب في العمل فيهـا لا بد أن يكون موهوباً. وأن الصحفي يولد، وفي يده القلم، وفي رأسه الفكرة، على حد تعبير بعضهم. بينما يؤكد آخرون أن الصحافة مهنة، كسائر المهن، في المجتمع، تحتاج إلى استعداد طبيعي، ولكنها، كأي مهنة، لها مكونات ثلاثة هي: المعارف، والمهارت، والقيم، التي يمكن اكتسابها، وتطويرها، تعليماً وتدريباً.
فالذين يقولون إن الصحافة فن يرون: "أن الصحافة استعداد طبيعي، قبل كل شيء، ولكي يكون الإنسان صحفياً وجب عليه أن يستجيب للنداء، الصادر من أعماقه، وأن تتوافر فيه الموهبة، والرغبة الملحة، في ملاحظة الحياة والناس".
وعلى الجانب الآخر هناك من يقول بضرورة الدراسة والتجربة، مثل جوزيف بوليتزر الصحفي، المجري الأصل، الذي أصبح ناشر النيويورك ورلد، ورئيس تحريرها، في أوائل القرن العشرين، فمن رأيه "أن كل ذكاء في حاجة إلى من يتعهده، حتى لو سلمنا بأن الاستعدادات الطبيعية هي مفتاح النجاح، في جميع ميادين النشاط الإنساني"، وأن الصفات الخلقية ـ وهي لازمة للصحفي الناجح ـ تنمو بالعلم والتجربة.
ويشير بوليتزر، كذلك، إلى أن الصحفيين، الذين لم يؤهلوا، إنما يتعلمون مهنتهم، على حساب الجمهور. ويضيف قائلاً: "لا يكفي أن يكون صحفي الغد متعلماً، تعليماً جامعياً عاماً، بل لا بد من إعداده، لمهنته الجديدة، إعداداً خاصاً". ويجيب بوليتزر على الذين يدعون أن الصحافة، في ذاتها، ليست مادة، يمكن تدريسها، بأنه: "كلما قطع المعترضون بأن هناك أشياء لا يمكن تدريسها، برهنوا على ضرورة ما يمكن تدريسه. إن المدرسة تكمل، ولا توجد. وإن كنا نحكم، على قيمة التعليم، من قدرته على إخراج صفات عقلية، من العدم، فإنه لا يكون، أمام معاهد التعليم، من رياض الأطفال إلى الجامعة، إلاّ أن تغلق أبوابها، فيتعطل جميع المشتغلين بالتعليم".
ويرى جوزيف بوليتزر، كذلك، أن الصحافة هي أكثر المهن حاجة إلى أوسع المعارف، وأعمقها، ويسأل هل يصح أن تُترك هذه المهنة، ذات المسؤوليات الكبيرة، تُمارس من دون أي تأهيل منتظم.
وجدير بالذكر أن بوليتزر أوصى، عند وفاته، بمليونين ونصف مليون دولار، لتأسيس مدرسة صحافة، وإنشاء جوائز سنوية باسمه لأحسن إنتاج، في مجال الصحافة والأدب.
وهناك من يقول: إذا كان لا بد للجامعات، من أن يكون لها دور معلوم، في التدريب المهني للصحفيين، فليكن ذلك، على المستوى فوق الجامعي. ومن أصحاب هذا الرأي، توم هولكنيسون، الذي عمل رئيساً لتحرير صحيفة بيكتشربوست، من 1940 إلى 1950، وأصبح فيما بعد، مديراً لمركز الدراسات الصحفية، في جامعة كارديف البريطانية، ويعدد ما يحمله على الاعتقاد بذلك، قائلاً:
1. إن الصحافة، تختلف عن سائر المهن الفكرية الحرة، كالطب والهندسة والمحاماة، من حيث إن العمل فيها لا يقتصر على لون واحد، من الألوان المتعددة للمعرفة. بل هي مهنة مفتوحة، لا مغلقة، تحتاج إلى ثقافة ذوي المهن الفكرية الأخرى. فالطبيب، مثلاً، بوسعه أن يكون مراسلاً، أو محرراً طبياً، كذلك المحامي أو المهندس. لكن ليس بوسع من تخصص، في الصحافة وحدها، أن يكون طبيباً أو مهندساً أو محامياً، ومادام الأمر كذلك، فإن التدريب المهني فوق الجامعي للصحفيين، سيتيح الفرصة للصحافة كي تستفيد، من كل ذوي المعرفة المتخصصة، على اختلاف ألوانهم.
2. إن التدريب المهني للصحفيين، على المستوى فوق الجامعي، هو أقل أنواع التدريب المهني تكلفة، وأسرعها عائداً، كما إنه أقلها ازدحاماً بالمواد المختلفة، التي يدخل بعضها في اختصاصات الشُّعب، والكليات الجامعية، الأخرى.
3. إن مثل هذا التدريب سيؤدي إلى المزيد من التعاون والتنسيق، بين الصحافة، والجامعات، فقد تطلب بعض المؤسسات الصحفية، من إحدى الجامعات، تخصيص دورة تدريبية، على المستوى فوق الجامعي، لتدريب من يعملون فيها كمراسلين تربويين، ومثل هذا التدريب، سيعين المراسلين حتماً على فهم أحدث التيارات والأفكار، في عالم التربية.
جرت أولى المحاولات، في ميدان التعليم الصحفي، في داخل "واشنطون كوليج"، عام 1869، وبعد سنوات قلائل، درست مادة صف الحروف والاختزال، وكان يقوم، بتدريس المادتين، رئيس تحرير جريدة لكسنفتي جازيت، وكان الطلبة يعملون في تحرير المواد، وأعمال المطبعة. وبعد ذلك غزت فكرة تدريس الصحافة كثيراً من العقول، وانتشرت، في أنحاء الولايات المتحدة، على الرغم من أن الصحافة كانت في أطوارها الأولى، وكان لكل واحد، من القائمين على هذه الدراسة، طريقته الشخصية في التدريس. وتضمنت مناهج الدراسة: تاريخ الصحافة، وإصدار الصحف، وقانون القذف، والإدارة، ومحاضرات عن أهم القضايا العالمية، في الداخل، والخارج، ودراسات تطبيقية، في التحرير بأنواعه، إلى جانب المحاضرات العملية، التي كان يلقيها أرباب هذه المهنة، وتتضمن ملاحظاتهم وخبرتهم وتجاربهم.
أمّا في أوروبا، فكانت الصحافة هي مهنة الأدباء، ثم بدأت الموضوعات الصحفية تهتم بالنواحي الاجتماعية، والتاريخية والاقتصادية ولم تهتم، في بادئ الأمر، بالنواحي الفنية العملية، فلما اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى، ظهرت أهمية الصحافة، في نشر الأنباء، مما دعا إلى الاهتمام بمناهج التدريس على أسس مختلفة. واهتمت كل من ألمانيا والنرويج وبولونيا، بإجراء دراسات خاصة بهذه المهنة، ثم بدأت هذه الدراسات تحتل أمكنة لها، في الجامعات، خاصة في ألمانيا في السنوات الأخيرة، بين الحربين العالميتين، وأصبحت تدرس الصحافة بانتظام في السنوات، التي سبقت الحرب العالمية الثانية، في كثير من جامعات أوروبا. وظهرت أهمية المناهج وكان ذلك، بعد أن أثبتت بعض المناهج قيمتها، في الدراسة، والبحث وظهر التخصص.
ويلاحظ أن بريطانيا على خلاف ما هو متبع، في الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، لا تميل كثيراً إلى نشاء كليات جامعية للدراسات الصحفية، أو الإعلامية، لكنها، مع ذلك، من الدول التي تهتم بالتدريب المهني للصحفيين؛ فقد تضافرت جهود جميع المنظمات الصحفية فيها على تحقيق مشروع قومي للتدريب، هو المجلس القومي لتدريب الصحفيين، وهذا المعهد، أو المجلس، لا يقبل التدريب فيه إلاّ أولئك، الذين يعملون في الصحافة بالفعل. ومن أراد الالتحاق به، عليه أن يبرهن على قدرته الصحفية بشكل عملي، أولاً، وقبل كل شيء، كما إن، لبعض المؤسسات الصحفية الكبرى، برامجها التدريبية الخاصة بها
إن إصدار الصحيفة لم يعد يُنظر إليه، كما كان الحال في الماضي، على أنه عمل أدبي أو فكري فحسب، بل أصبحت الصحافة صناعة قائمة بذاتها، لها اقتصادياتها الخاصة بها. وأصبحت كذلك مهنة لها سمات وخصائص المهن الفنية. وأصبحت جهازاً كاملاً له إدارته الخاصة.
يتضمن جوهر الفن الصحفي، مزيجاً إبداعياً من فن التحرير الصحفي، أو الكتابة بلغة تناسب الصحافة، كوسيلة، وتتسق مع سمات جمهورها، والتصوير الصحفي، والرسوم اليدوية بأنواعها الساخرة، والتوضيحية والتعبيرية، وفن الصور الصحفية والرسوم، ثم الفن الإعلاني، وأخيراً، فن الإخراج الصحفي، الذي يتولى عملية الإبراز والتنسيق والجذب، للمادة الصحفية، وللمادة الإعلانية وتكوين شخصية للصحيفة.
ولإصدار صحيفة (جريدة أو مجلة) لأول مرة لابد من اتخاذ عدة خطوات مهمة قبل الإصدار، هي:
دراسة الجمهور ومعرفة احتياجاته.
1. دراسة الصحف المنافسة.
2. تحديد الهدف من الإصدار.
3. رسم السياسة التحريرية.
4. وضع التصميم الأساسي للصحيفة.
5. اختيار النظام الإنتاجي للصحيفة (مراحل ما قبل الطبع والطباعة).
6. اختيار الكادر البشري المؤهل، وتوزيعه، على الأقسام المختلفة.
7. الحصول على ترخيص قانوني للإصدار، أو التقدم بإخطار.
8. تدبير التمويل اللازم، ووضع الميزانية، وحساب التكاليف.
9. توفير المقر، والتجهيزات التكنولوجية المختلفة، للإصدار.
10. الاتصال بالمعلنين، وحثهم على الإعلان، في الصحيفة.
11. وضع خريطة تنظيمية للصحيفة، تحدد خطوط السلطة، والمسؤوليات والعلاقات وخط سير النص الصحفي، من المحرر إلى المطبعة.
12. الاتفاق مع وكالات الأنباء، ووكالات الخدمات الصحفية، كوكالات الصور والرسوم والمقالات والمعلومات، وكذلك، وكالات الإعلان والتسويق، للاستفادة من خدماتها.
13. إعداد الحملة الإعلانية عن الصحيفة، وجدولتها.
14. إصدار الأعداد التجريبية، (الأعداد الزيرو)، وتحديد موعد نهائي لصدور العدد الأول.
أمّا خطوات إصدار عدد من الصحيفة، وهي الخطوات، التي تتم يومياً، أو أسبوعياً، على عدد واحد من الصحيفة فتتضمن:
1. تقييم العدد الصادر.
2. التخطيط للعدد التالى، ويتضمن ذلك توزيع المهام، على الأفراد، في الأقسام المختلفة.
3. جمع المعلومات، من المصادر الداخلية، والخارجية للصحيفة، من خلال المحررين والمندوبين.
4. مراجعة المواد المجموعة، واستكمالها ميدانياً، أو مكتبياً.
5. التقاط الصور الفوتوغرافية المناسبة للموضوعات، أو الحصول عليها من قسم المعلومات، في بعض الأخبار والموضوعات.
6. تجهيز الرسوم اليدوية التوضيحية والتعبيرية والساخرة.
7. تحرير المواد الصحفية المجموعة في شكل أخبار، وموضوعات صحفية، ومراجعتها.
8. تحرير التعليقات، أو الشروح، المصاحبة للصور الفوتوغرافية، والرسوم اليدوية.
9. جلب الإعلانات الصحفية، ووكالات الإعلان المختلفة، عن طريق قسم، أو إدارة الإعلانات بالصحيفة.
10. تحرير الإعلانات الصحفية، وإخراجها وتنفيذها، على ماكيتات ترسل إلى جهاز التحرير بالجريدة، مقترح عليها الصفحات المطلوب نشرها فيها.
11. تقييم المواد الصحفية، وتحديد صلاحيتها للنشر، بمعنى أن يجري تقييم جميع الأخبار والموضوعات، وتقرير ما إذا كانت صالحة للنشر بشكلها الحالي، أو بعد الاستكمال، أو غير صالحة للنشر، على الإطلاق.
12. الاستقرار على ماكيت، أو تخطيط لمواد العدد التحريرية، والإعلانية، وتوزيعها على الصفحات المختلفة.
13. إخراج الجريدة، بمعنى إعداد الصفحات المختلفة، وفقاً لخطة العدد، وفي إطار التصميم الأساسي للجريدة المستقر عليه، ويعنى ذلك تحديد مواقع الأخبار والموضوعات الصحفية، والإعلانات، داخل الصفحات المختلفة للجريدة، ومساحاتها، وأساليب المعالجة التيبوغرافية لها، ويتضمن ذلك تحديد حجم حروف كل مادة صحفية، واتساع سطورها، والصور والرسوم المناسبة لها.
14. إرسال المواد الصحفية والإعلانية المكتوبة إلى قسم الصف، ومراجعتها، وتصحيحها.
15. إرسال المواد المصورة والمرسومة إلى قسم التصوير ومراجعتها.
16. تجميع المواد المكتوبة والمصورة، وفقاً للماكيت المتفق عليه، في عملية الإعداد، أو المونتاج.
فن التحرير الصحفي
والتحرير الصحفي ـ كخطوة من خطوات إصدار الصحيفة هو العملية اليومية أو الأسبوعية، حسب دورية الإصدار، التي يقوم فيها المحرر الصحفي بالصياغة الفنية، والكتابة الصحفية، أو المعالجة لمضمون المادة الصحفية، أو المعلومات، التي جمعها من المصادر المختلفة، في الأشكال، أو القوالب الصحفية المناسبة، والمتعارف عليها، ثم المراجعة الدقيقة وإعادة الصياغة لها. وتبدأ عملية التحرير الصحفي فور عملية الكتابة الصحفية؛ فالمحرر يكتب المادة، في الشكل، الذي اختاره بنفسه، وقد يكتب المحرر، ويراجعه المحرر المسؤول، أي يحرر ما كتبه. وقد تبدأ العملية، وتنتهي مع المحرر، الذي يقوم بالعمليتين معاً، الكتابة Writing، والتحرير Editing. وتعني كلمة تحرير editing إعداد كتابات الآخرين للنشر، ومنها جاءت كلمة Editor، أي محرر، أو رئيس تحرير. والمحرر الصحفي الناجح هو، الذي ينجح في الكتابة، بلغة صحفية مناسبة وجيدة، مما يجعل هذا النص الصحفي، خبراً كان، أو موضوعاً، لا يحتاج إلى عملية تحرير جديدة، تتضمن المراجعة، وإعادة صياغة بالحذف، أو الإضافة أو تغيير الأسلوب، أو البناء الفني للنص.
والتحرير الصحفي، أو فن الكتابة الصحفية كفن كتابي يختلف عن فن الكتابة العلمية، حيث تعتمد الأخيرة على المصطلحات العلمية، أو الفنية المحددة الدقيقة، التي قد لا يفهمها، إلاّ أصحاب التخصص الدقيق، كما تختلف عن الكتابة الأدبية، التي تعتمد على الخيال، والبلاغة اللفظية، والاستطراد وتخاطب مشاعر المستقبل، وتتوجه إلى قارئ، يبحث عن متعة جمالية وفكرية.
بينما يعتمد التحرير الصحفي، على الأسلوب العلمي الأدبي، أو اللغة الوسطى، التي يسميها البعض، باللغة الصحفية، أو اللغة الإعلامية، ذات الأسلوب الصحفي أو الإعلامي، الذي يفهمه قارئ الصحيفة العادي، وذات الأشكال، أو القوالب الفنية المتميزة، التي يتم، من خلالها، نقل المضمون الصحفي.
والتحرير الصحفي هو نوع جديد من النثر، أضافه أساتذة الصحافة والأدب، إلى أنواع النثر التقليدية (العادي ـ العلمي ـ الفني)، هو النثر العملي، أو الصحفي وذلك بعد ظهور الصحافة، في القرن التاسع عشر، وقالوا إن هذا النثر يقف، في منتصف الطريق، بين النثر الفني، أي لغة الأدب، وبين النثر العادي، أي لغة التخاطب اليومي، وله من النثر العادي، ألفته وسهولته وبساطته ومباشرته وشعبيته، وله من النثر الفني، حظه من التفكير وحظه من عذوبة التعبير. ولعل ذلك المفهوم للنثر العلمي أو الصحفي، هو الذي جعل بعض أساتذة الصحافة يطلق على لغة الصحافة وصف الأدب العاجل. أو الأدب غير الخالد.
الأسلوب الصحفي
الواقع الصحفي يقول: إن هناك أسلوباً صحفياً، أو أسلوباً معيناً، له سمات التحرير الصحفي، وينبع هذا الأسلوب، من عدة محددات، تتعلق بطبيعة الصحافة، كوسيلة اتصال، من حيث حجم الصحيفة، والمساحة المحدودة، وجانبها التقني، وطبيعة دوريتها، أو توقيت إصدارها، الذي يقتضي السرعة والاختصار والتركيز، وبوظيفتها العامة، وهي التعبير عما يحدث، في الحياة اليومية، والتي يطلق عليها الوظيفة الأخبارية ـ كوظيفة أساسية ـ إذ تقوم بنقل الأخبار إلى كل فئات الرأي العام.
ويتخذ التحرير الصحفي أشكالاً أو قوالب خاصة، لها قواعدها المتعارف عليها. وفي النهاية يخرج المقال الصحفي بأنواعه المختلفة ووظائفه المتنوعة. وله تصميماته المختلفة، وفي أحيان كثيرة مع الصور والرسوم المناسبة المختارة.
اتجاهات نشر الأخبار
تبني بعض الصحف منهجها على الصدق، والتثبت من صحة الخبر، قبل كل شيء، وبعضها يبني منهجه على ما يسمى بالسبق الصحفي، حتى ولو ضحى، في سبيل ذلك بالتثبت من صحة الخبر. وكل من المنهجين يستند إلى حقيقة نفسية عند القراء؛ فأصحاب السبق الصحفي يراهنون على الفضول البشرى، والرغبة في الاستطلاع، ومعرفة الأسرار والمفاجآت إشباعاً للغرور، أو ترضية للهفة البشرية.
قد يكون منهج التثبت أكثر جدية، في الصحافة، واحتراماً لرسالتها، بل واحتراماً للقراء، وأصحاب هذا المنهج لا يرون، في صحفهم، مجرد أداة للإعلان، بل سجلاً للتاريخ، ومن ثم قد لا يأنفون من نشر خبر، سبق أن نشرته صحف أخرى، وإن كان بعضها لا يضع مثل هذه الأخبار السابقة في الأماكن البارزة، من الصحيفة، ولا في صفحاتها الرئيسة.
حدث ذات مرة، أن نشرت بعض صحف القاهرة نبأ، تلقته عن إحدى وكالات الأنباء، عن وفاة سلطان باشا الأطرش، زعيم الدروز. وظهرت الصحف في الصباح، وإذا بالأهرام، وحدها، تغفل نشر هذا الخبر، وروجع رئيس تحريرها الصحفي القديم، أنطون باشا الجميل، في هذا الأمر، فكان جوابه: "إن من لم يمت، في الأهرام، لم يمت"، وبالفعل اتضح أن الأهرام كانت قد تلقت الخبر، من الوكالة نفسها كما تلقته الصحف الأخرى، ولكن رئيس تحريرها اتصل بالمصادر العربية والدبلوماسية، في القاهرة ليتأكد من صحة الخبر، قبل نشره، فنفوا له صحته، وعدم علمهم بشيء، من هذا. وبعد ذلك بيوم، أذاعت الوكالة نفسها اعتذاراً، وتصحيحاً للخبر السابق، قالت فيه إن الذي مات كان والدة سلطان باشا الأطرش، لا الزعيم الدرزي نفسه.
وهكذا اختارت جريدة الأهرام التثبت الصحفي، واحترام القارئ، بدلاً من السبق الصحفي، وليس من شك في أن الأفضل هو الجمع بين السبق الصحفي، والتثبت منه، كلما استطاع الصحفي إلى ذلك سبيلاً، وإذا لم يكن بد من الاختيار، فربما كان، من الأصح أخلاقياً، وإنسانياً ووطنياً، تفضل التثبت على السبق الصحفي؛ لأن ثقة القراء واحترامهم رأس مال أدبي كبير للصحافة.