طبيعة الصورة السينمائية والتليفزيونية
برغم الاعتقاد السائد بأن الكاميرا السينمائية تسجل صورة مطابقة للواقع إلا أن هذا التطابق هو فى حقيقته تطابق ظاهري ولا يمثل صورة طبق الأصل تمامًا . فمن الناحية المبدئية ، هناك فوارق رئيسية بين رؤية الكاميرا للواقع , ورؤية الإنسان له ..
وهذه الفوارق كما يقول "رودلف ارنهايم " فى كتابه " فن السينما " تمثل فى مجملها قصورًا فى رؤية الكاميرا بالمقارنة بالرؤية الإنسانية ، ولكنه بمثابة القصور الإيجابي الذى جعل من الفيلم فنًا . ومعرفة السينمائي للعناصر التي تكون هذا القصور تمثل أساسا هامًا فى توظيفه الخلاق للصورة السينمائية . وفن الفيلم كما يقول " مارسيل مارتن " فى كتابه "اللغة السينمائية" لا يقدم صورة طبق الأصل من الواقع بل يقدم ما يمكن تسميته " الواقعية الفنية " . وعلى ذلك فإن تقدير قيمة التأثيرات الجمالية للصورة السينمائية يتطلب من الناحية المبدئية التعرف على أهم الفوارق بين رؤية الكاميرا والرؤية الإنسانية , ودراسة أبعادها من منظور جمالي يتجاوز مجرد تسجيل الكاميرا للواقع الموجود فى مجال رؤيتها .
أولاً : تسطيح الصورة السينمائية :
يتمثل أول الفوارق بين رؤية الكاميرا والرؤية الإنسانية فى أبعاد الانطباع البصري لكل من الرؤيتين :
أولاً - الإدراك الإنساني لصورة الواقع يتمثل فى صورة ذات أبعاد ثلاثة ، وهذه الأبعاد هي الطول(أو الارتفاع) , والعرض , والعمق ، فبينما تمثل ثنائية الارتفاع والعرض بعدى إطار الرؤية ، فإن الإدراك البصري الذى يمتد فى عمق الصورة يمثل البعد الثالث.
ثانياً - رؤية الكاميرا لصورة الواقع تنتج فى النهاية صورة تعرض على مسطح ذي بعدين : الارتفاع والعرض ، أما البعد الثالث فهو وإن كان من الناحية المادية بعدًا مفقودًا بسبب تسطح شاشة العرض , إلا أننا نتوهم وجوده نتيجة تفاعل إدراكنا العقلي لعناصر الصورة المتماثلة مع الواقع ومع إدراكنا البصري للعناصر التشكيلية التي تلعب دورًا رئيسيًا فى تقوية هذا الإيهام ويتمثل أهمها فى :
1. الأجسام والكتل المتواجدة على أبعاد متوالية فى عمق الرؤية من أمامية الصورة إلى خلفيتها , مثلما فى حالة تواجد عدد من الأشخاص فى غرفة مثلاً تتفاوت أوضاعهم ما بين أقرب موضع من الكاميرا الى أبعد وضع فى نهاية الغرفة , ونظرًا لطبيعة قصور رؤية الكاميرا فسوف تبدو أحجام الأشخاص متدرجة من الأكبر (فى مقدمة الصورة) إلى الأصغر فى خليفتها , مما يقوى من الإيهام بالعمق (البعد الثالث ) .
2. الخطوط المتوازية وتمتد من ناحية الكاميرا إلى اتجاه عمق الرؤية ، مثل الخطين المحددين لمنضدة تبدو مقدمتها قريبة من الكاميرا وتمتد فى اتجاه العمق , كما تمتد خطوط التقاء حائطي غرفة مع السقف أو الأرضية (أو هما معا ) فى اتجاه العمق, وكذلك الحال بالنسبة للخطوط المتمثلة فى قضبان مسارات القطارات ، فنتيجة للقصور فى رؤية الكاميرا بالمقارنة بالرؤية الإنسانية , تبدو مثل هذه الخطوط و كأنما تميل إلى التلاقي وهي متجهة إلى العمق . وهذا الميل الظاهري الذى نستشعره على مستوى الواقع فى مسافات العمق البعيد جدًا مثل النظر إلى مسار قضبان قطار ، يحدث أثره فى المسافات القصيرة من خلال الصورة السينمائية .
3. التدريجات الضوئية و تبايناتها ما بين مقدمة الصورة وخلفيتها ، فنظرًا لحقيقة قصور رؤية الكاميرا وعرض الصورة على مسطح , تبدو هذه التدريجات والتباينات أقوى تأثيرًا فى الصورة السينمائية وتلعب دورها الهام فى تقوية الإيهام بالعمق .
4. الحركة من وإلى الكاميرا , كحركة الأشخاص والأشياء المتحركة , وكذلك حركة الكاميرا فى اتجاه العمق أو منه ، فمثل هذه الحركات تؤدى دورها أيضًا فى تقوية الإيهام بالعمق ..
إن أى من هذه العناصر أو بعضها أو كلها يسهم إسهاما فعالاً فى خلق هذا الإيهام بالعمق ، ولتأكيد هذه الحقيقة فإنه يمكننا التحقق من ذلك لو تخيلنا وضعًا للكاميرا عند أول حدود غرفة ما مثلاً ووجهناها إلى ناحية الحائط البعيد دون أن يظهر أى جزء من أرضية الغرفة أو سقفها أو أى جسم فى الفراغ الواقع بين الكاميرا والحائط .... فعندما تصور الكاميرا هذا الحائط ثم نقوم بعرض النتيجة على سطح الشاشة , فإن الحائط البعيد على مستوى الواقع ( فى البعد الثالث ) سيبدو فى الصورة المسجلة له وكأنه فى أمامية الصورة تمامًا وكمجرد سطح يشغل كل مساحتها ..... وعلى ذلك فإنه لو قمنا بتعديل التجربة ووضعنا جسمًا قريبًا من الكاميرا أو على مسافة متوسطة ما بين الكاميرا والحائط لبدت الصورة الجديدة وقد اكتسبت أولى درجات الإيهام بوجود البعد الثالث .
وتأسيسًا على كل ما تقدم فإن أولى المبادئ الهامة فى التعامل مع الصورة السينمائية يتمثل فى أن نتعلم كيفية النظر إليها من خلال منظورين فى وقت واحد، هما :
1- حقيقة أنها مسطحة .
2- الإيهام باحتوائها على بعد ثالث .
ولهذا يقال بأن الصورة السينمائية ليست ذات بُعديين بشكل مطلق ، وليست ذات ثلاث أبعاد تمامًا ، و لكنها تجمع بين هذين النقيضين ، وبصرف النظر عن رؤيتنا للصورة من منظور واقعي من حيث تعرفنا على مضمون ما يظهر فيها ، فإن تسطيح الصورة هو الذى يكسبها تأثيرها الجمالي.ولهذا فإنه ينبغي أن نتدرب على كيفية إدراكها من منظور تشكيلي أو تجريدي إلى جانب إدراكها على أنها تمثل الواقع , فرؤية سيارة مثلاً وهي تجرى داخل إطار الصورة هي أيضًا رؤية لمساحة محدودة ذات شكل معين ودرجة ضوئية أو لونية معينة . وبالمثل فإن رؤية شخص ما يرتدى سترة بيضاء يحتل الثلث الأيمن أو الأيسر من الصورة , هى فى نفس الوقت رؤية لمساحة بيضاء ذات ضوء مبهر تشغل هذا الحيز , ولو كان هناك بخلفية هذه الصورة الأخيرة باب مفتوح على غرفة ذات ضوء ساطع , فإن الضوء الصادر من الباب سيخلق علاقة تشكيلية مع السترة البيضاء فى مقدمة الصورة فبقدر رؤيتنا للباب فى الخلفية كباب فى العمق (بعد ثالث) , فإننا نراه أيضًا كمساحة ضوئية على نفس السطح (تسطح الصورة) الذى تظهر عليه السترة البيضاء .... و بنفس المفهوم فيما يتعلق بالعناصر المتحركة ، فإنه يمكننا أن نرى شخصًا يتحرك متقدمًا من الخلفية نحو الكاميرا ( صورة ذات بعد ثالث) على انه مساحة ذات درجة ضوئية أو لونية معينة تكبر وتنتشر تدريجيًا نحو أطراف الصورة (صورة مسطحة) - والعكس صحيح , فالحركة المبتعدة من الكاميرا تبدو فى نفس الوقت وهى تتضاءل وتنكمش تدريجيًا من اتجاه أطراف الصورة نحو نقطة مركزية على سطح الصورة . ولو غيرنا من وضع الكاميرا بالنسبة لهذه الحركة القادمة من العمق أو المتجهة إليه ، فوضعناها فى رؤية مرتفعه تماثل رؤية "عين الطائر" فسوف تبدو حركة الشخص على سطح الصورة مختلفة تمامًا ، حيث نراها تتجه من أعلى الصورة إلى أسفلها (بدلاً من تحركها من العمق) أو من أسفل الصورة إلى أعلاها (بدلاً من تحركها إلى العمق) و يترتب على ذلك تضاؤل الإيهام بالبعد الثالث إلى حد كبير .
ثانياً : وضع الكاميرا بالنسبة لموضوع التصوير :
فى الحياة الواقعية نتواجد فى الأماكن المختلفة تبعًا لرغباتنا وتلبية لحاجاتنا الإنسانية . وعندما نستقر فى حيز معين بمكان ما، فإننا ننظر إلى الأشخاص الآخرين أو الأشياء المحيطة بنا من هذا الوضع الثابت حتى نغيره لضرورة أو رغبة إنسانية غالبة لنستقر فى وضع ثابت جديد لزمن ما إلى أن يتم مرة أخرى , وهكذا . وفى أى من هذه الأوضاع يكفينا أن نرى ما نرغب فى رؤيته أو يتصادف وجوده فى مجال رؤيتنا , وأن نراه بوضوح كاف . ومن ثم فإن الرؤية الإنسانية للواقع المحيط فى ظروف الحياة اليومية تبدو كإدراك بصري تلقائي نمارسه بشكل آلى دون التفكير فيه ما دمنا نتعرف على الأشياء بوضوح كاف .
أما فى الرؤية السينمائية ، فإن هذا الاعتياد التلقائي ينتقل برمته إلى سلطان مخرج الفيلم الذى يتحكم فى تحديد الوضع الذى ننظر منه كمتفرجين إلى أى شئ , وفى تحديده لوضع الكاميرا بالنسبة إلى موضوع التصوير, فمن المفترض أن يحدد هذا الوضع بما يتيح للمتفرج التعرف على ماهية الشئ المصور و كينونته ، إلا أن هذا لا يعنى أن يضع الكاميرا فى أى موضع يمكن منه رؤية هذا الشئ . ذلك لأن حقيقة تسطح الصورة قد تظهر الشئ بغير حقيقته أو بغير مواصفاته إن لم يتم اختيار موضع الكاميرا بعناية .
ولإثبات ذلك , يسوق رودلف ارنهايم مثالا تطبيقيا فيقول : لو كنا بصدد تصوير مكعب مثلا , فإن وضع الكاميرا في مواجهة سطح أحد جوانبه سوف يبدو كسطح مربع ويخفي لنا انه أحد أسطح المكعب . وإذا قمنا بتحريك الكاميرا قليلا إلي اليمين أو إلي اليسار فسوف نري سطحين متعامدين , وبرغم إكسابهما الصورة شئ من العمق إلا أنهما لا يقطعان بحقيقة أنهما ينتميان إلي مكعب . أما إذا قمنا من هذا الوضع الأخير برفع الكاميرا قليلا حتى تظهر لنا السطح العلوي للمكعب بالإضافة إلي سطحي الجانبين , فسوف نري ثلاثة أسطح تمثل القدر اللازم للقطع بحقيقة أننا نري مكعبا .
وبرغم أن هذا المثال يؤكد مبدأ اختيار وضع الكاميرا للتعرف علي حقيقة الشيء أو مضمونه , إلا أن هذا لا يعني مجرد توصيل المضمون المباشر له , بل يمتد إلي ما يرتبط به من صفة أو صفات . فلو كنا بصدد تصوير جندي في ميدان القتال , فلا يكفي أن نضع الكاميرا في أي موضع يتيح لنا رؤية الجندى والتعرف عليه , بل ينبغي اختيار الوضع الذي يظهره بصفات التحفز والقوة ... وهذا يقودنا إلي تخفيض مستوي الكاميرا حتى نري الجندي من أسفل إلي أعلي بما يكسب تكوينه الجسماني ديناميكية تضفي عليه صفات تتجاوز مجرد مظهره كجندي . وبالمثل لو أننا بصدد تصوير شيء بسيط كباقة من الزهور مثلا , فلا يكفي أن نصورها بما يظهر حقيقتها المادية المباشرة , بل سنسعى نحو اختيار الوضع الذى يضفى عليها صفات الجمال, والذي قد يكون أعلى من مستوى النظر قليلاً . وفى هذا الخصوص أفصح أحد مخرجي السينما الأمريكية " ادوارد ديميترى " أنه اعتاد أن يصور اللقطة القريبة لوجه الشخصية من أسفل قليلاً , حيث أن هذا الوضع يظهر تعبير العينين بتأثير أقوى من حالة التصوير من مستوى النظر ...
بالإضافة إلى كل ذلك , فإن المخرج يضع فى اعتباره أنه يتعامل مع صورة تكتسب صفات تشكيلية تنبع من حقيقة أنها مسطحة , وأنها تعرض داخل إطار محدد. ومن ثم فإن هذا يفرض عليه أن يسعى إلى إشباع مشاعر المتفرج بالتذوق الجمالي لها من خلال ترتيب عناصرها وتحديد علاقاتها ببعضها البعض من ناحية تكوينها التشكيلي العام من ناحية أخرى .
برغم الاعتقاد السائد بأن الكاميرا السينمائية تسجل صورة مطابقة للواقع إلا أن هذا التطابق هو فى حقيقته تطابق ظاهري ولا يمثل صورة طبق الأصل تمامًا . فمن الناحية المبدئية ، هناك فوارق رئيسية بين رؤية الكاميرا للواقع , ورؤية الإنسان له ..
وهذه الفوارق كما يقول "رودلف ارنهايم " فى كتابه " فن السينما " تمثل فى مجملها قصورًا فى رؤية الكاميرا بالمقارنة بالرؤية الإنسانية ، ولكنه بمثابة القصور الإيجابي الذى جعل من الفيلم فنًا . ومعرفة السينمائي للعناصر التي تكون هذا القصور تمثل أساسا هامًا فى توظيفه الخلاق للصورة السينمائية . وفن الفيلم كما يقول " مارسيل مارتن " فى كتابه "اللغة السينمائية" لا يقدم صورة طبق الأصل من الواقع بل يقدم ما يمكن تسميته " الواقعية الفنية " . وعلى ذلك فإن تقدير قيمة التأثيرات الجمالية للصورة السينمائية يتطلب من الناحية المبدئية التعرف على أهم الفوارق بين رؤية الكاميرا والرؤية الإنسانية , ودراسة أبعادها من منظور جمالي يتجاوز مجرد تسجيل الكاميرا للواقع الموجود فى مجال رؤيتها .
أولاً : تسطيح الصورة السينمائية :
يتمثل أول الفوارق بين رؤية الكاميرا والرؤية الإنسانية فى أبعاد الانطباع البصري لكل من الرؤيتين :
أولاً - الإدراك الإنساني لصورة الواقع يتمثل فى صورة ذات أبعاد ثلاثة ، وهذه الأبعاد هي الطول(أو الارتفاع) , والعرض , والعمق ، فبينما تمثل ثنائية الارتفاع والعرض بعدى إطار الرؤية ، فإن الإدراك البصري الذى يمتد فى عمق الصورة يمثل البعد الثالث.
ثانياً - رؤية الكاميرا لصورة الواقع تنتج فى النهاية صورة تعرض على مسطح ذي بعدين : الارتفاع والعرض ، أما البعد الثالث فهو وإن كان من الناحية المادية بعدًا مفقودًا بسبب تسطح شاشة العرض , إلا أننا نتوهم وجوده نتيجة تفاعل إدراكنا العقلي لعناصر الصورة المتماثلة مع الواقع ومع إدراكنا البصري للعناصر التشكيلية التي تلعب دورًا رئيسيًا فى تقوية هذا الإيهام ويتمثل أهمها فى :
1. الأجسام والكتل المتواجدة على أبعاد متوالية فى عمق الرؤية من أمامية الصورة إلى خلفيتها , مثلما فى حالة تواجد عدد من الأشخاص فى غرفة مثلاً تتفاوت أوضاعهم ما بين أقرب موضع من الكاميرا الى أبعد وضع فى نهاية الغرفة , ونظرًا لطبيعة قصور رؤية الكاميرا فسوف تبدو أحجام الأشخاص متدرجة من الأكبر (فى مقدمة الصورة) إلى الأصغر فى خليفتها , مما يقوى من الإيهام بالعمق (البعد الثالث ) .
2. الخطوط المتوازية وتمتد من ناحية الكاميرا إلى اتجاه عمق الرؤية ، مثل الخطين المحددين لمنضدة تبدو مقدمتها قريبة من الكاميرا وتمتد فى اتجاه العمق , كما تمتد خطوط التقاء حائطي غرفة مع السقف أو الأرضية (أو هما معا ) فى اتجاه العمق, وكذلك الحال بالنسبة للخطوط المتمثلة فى قضبان مسارات القطارات ، فنتيجة للقصور فى رؤية الكاميرا بالمقارنة بالرؤية الإنسانية , تبدو مثل هذه الخطوط و كأنما تميل إلى التلاقي وهي متجهة إلى العمق . وهذا الميل الظاهري الذى نستشعره على مستوى الواقع فى مسافات العمق البعيد جدًا مثل النظر إلى مسار قضبان قطار ، يحدث أثره فى المسافات القصيرة من خلال الصورة السينمائية .
3. التدريجات الضوئية و تبايناتها ما بين مقدمة الصورة وخلفيتها ، فنظرًا لحقيقة قصور رؤية الكاميرا وعرض الصورة على مسطح , تبدو هذه التدريجات والتباينات أقوى تأثيرًا فى الصورة السينمائية وتلعب دورها الهام فى تقوية الإيهام بالعمق .
4. الحركة من وإلى الكاميرا , كحركة الأشخاص والأشياء المتحركة , وكذلك حركة الكاميرا فى اتجاه العمق أو منه ، فمثل هذه الحركات تؤدى دورها أيضًا فى تقوية الإيهام بالعمق ..
إن أى من هذه العناصر أو بعضها أو كلها يسهم إسهاما فعالاً فى خلق هذا الإيهام بالعمق ، ولتأكيد هذه الحقيقة فإنه يمكننا التحقق من ذلك لو تخيلنا وضعًا للكاميرا عند أول حدود غرفة ما مثلاً ووجهناها إلى ناحية الحائط البعيد دون أن يظهر أى جزء من أرضية الغرفة أو سقفها أو أى جسم فى الفراغ الواقع بين الكاميرا والحائط .... فعندما تصور الكاميرا هذا الحائط ثم نقوم بعرض النتيجة على سطح الشاشة , فإن الحائط البعيد على مستوى الواقع ( فى البعد الثالث ) سيبدو فى الصورة المسجلة له وكأنه فى أمامية الصورة تمامًا وكمجرد سطح يشغل كل مساحتها ..... وعلى ذلك فإنه لو قمنا بتعديل التجربة ووضعنا جسمًا قريبًا من الكاميرا أو على مسافة متوسطة ما بين الكاميرا والحائط لبدت الصورة الجديدة وقد اكتسبت أولى درجات الإيهام بوجود البعد الثالث .
وتأسيسًا على كل ما تقدم فإن أولى المبادئ الهامة فى التعامل مع الصورة السينمائية يتمثل فى أن نتعلم كيفية النظر إليها من خلال منظورين فى وقت واحد، هما :
1- حقيقة أنها مسطحة .
2- الإيهام باحتوائها على بعد ثالث .
ولهذا يقال بأن الصورة السينمائية ليست ذات بُعديين بشكل مطلق ، وليست ذات ثلاث أبعاد تمامًا ، و لكنها تجمع بين هذين النقيضين ، وبصرف النظر عن رؤيتنا للصورة من منظور واقعي من حيث تعرفنا على مضمون ما يظهر فيها ، فإن تسطيح الصورة هو الذى يكسبها تأثيرها الجمالي.ولهذا فإنه ينبغي أن نتدرب على كيفية إدراكها من منظور تشكيلي أو تجريدي إلى جانب إدراكها على أنها تمثل الواقع , فرؤية سيارة مثلاً وهي تجرى داخل إطار الصورة هي أيضًا رؤية لمساحة محدودة ذات شكل معين ودرجة ضوئية أو لونية معينة . وبالمثل فإن رؤية شخص ما يرتدى سترة بيضاء يحتل الثلث الأيمن أو الأيسر من الصورة , هى فى نفس الوقت رؤية لمساحة بيضاء ذات ضوء مبهر تشغل هذا الحيز , ولو كان هناك بخلفية هذه الصورة الأخيرة باب مفتوح على غرفة ذات ضوء ساطع , فإن الضوء الصادر من الباب سيخلق علاقة تشكيلية مع السترة البيضاء فى مقدمة الصورة فبقدر رؤيتنا للباب فى الخلفية كباب فى العمق (بعد ثالث) , فإننا نراه أيضًا كمساحة ضوئية على نفس السطح (تسطح الصورة) الذى تظهر عليه السترة البيضاء .... و بنفس المفهوم فيما يتعلق بالعناصر المتحركة ، فإنه يمكننا أن نرى شخصًا يتحرك متقدمًا من الخلفية نحو الكاميرا ( صورة ذات بعد ثالث) على انه مساحة ذات درجة ضوئية أو لونية معينة تكبر وتنتشر تدريجيًا نحو أطراف الصورة (صورة مسطحة) - والعكس صحيح , فالحركة المبتعدة من الكاميرا تبدو فى نفس الوقت وهى تتضاءل وتنكمش تدريجيًا من اتجاه أطراف الصورة نحو نقطة مركزية على سطح الصورة . ولو غيرنا من وضع الكاميرا بالنسبة لهذه الحركة القادمة من العمق أو المتجهة إليه ، فوضعناها فى رؤية مرتفعه تماثل رؤية "عين الطائر" فسوف تبدو حركة الشخص على سطح الصورة مختلفة تمامًا ، حيث نراها تتجه من أعلى الصورة إلى أسفلها (بدلاً من تحركها من العمق) أو من أسفل الصورة إلى أعلاها (بدلاً من تحركها إلى العمق) و يترتب على ذلك تضاؤل الإيهام بالبعد الثالث إلى حد كبير .
ثانياً : وضع الكاميرا بالنسبة لموضوع التصوير :
فى الحياة الواقعية نتواجد فى الأماكن المختلفة تبعًا لرغباتنا وتلبية لحاجاتنا الإنسانية . وعندما نستقر فى حيز معين بمكان ما، فإننا ننظر إلى الأشخاص الآخرين أو الأشياء المحيطة بنا من هذا الوضع الثابت حتى نغيره لضرورة أو رغبة إنسانية غالبة لنستقر فى وضع ثابت جديد لزمن ما إلى أن يتم مرة أخرى , وهكذا . وفى أى من هذه الأوضاع يكفينا أن نرى ما نرغب فى رؤيته أو يتصادف وجوده فى مجال رؤيتنا , وأن نراه بوضوح كاف . ومن ثم فإن الرؤية الإنسانية للواقع المحيط فى ظروف الحياة اليومية تبدو كإدراك بصري تلقائي نمارسه بشكل آلى دون التفكير فيه ما دمنا نتعرف على الأشياء بوضوح كاف .
أما فى الرؤية السينمائية ، فإن هذا الاعتياد التلقائي ينتقل برمته إلى سلطان مخرج الفيلم الذى يتحكم فى تحديد الوضع الذى ننظر منه كمتفرجين إلى أى شئ , وفى تحديده لوضع الكاميرا بالنسبة إلى موضوع التصوير, فمن المفترض أن يحدد هذا الوضع بما يتيح للمتفرج التعرف على ماهية الشئ المصور و كينونته ، إلا أن هذا لا يعنى أن يضع الكاميرا فى أى موضع يمكن منه رؤية هذا الشئ . ذلك لأن حقيقة تسطح الصورة قد تظهر الشئ بغير حقيقته أو بغير مواصفاته إن لم يتم اختيار موضع الكاميرا بعناية .
ولإثبات ذلك , يسوق رودلف ارنهايم مثالا تطبيقيا فيقول : لو كنا بصدد تصوير مكعب مثلا , فإن وضع الكاميرا في مواجهة سطح أحد جوانبه سوف يبدو كسطح مربع ويخفي لنا انه أحد أسطح المكعب . وإذا قمنا بتحريك الكاميرا قليلا إلي اليمين أو إلي اليسار فسوف نري سطحين متعامدين , وبرغم إكسابهما الصورة شئ من العمق إلا أنهما لا يقطعان بحقيقة أنهما ينتميان إلي مكعب . أما إذا قمنا من هذا الوضع الأخير برفع الكاميرا قليلا حتى تظهر لنا السطح العلوي للمكعب بالإضافة إلي سطحي الجانبين , فسوف نري ثلاثة أسطح تمثل القدر اللازم للقطع بحقيقة أننا نري مكعبا .
وبرغم أن هذا المثال يؤكد مبدأ اختيار وضع الكاميرا للتعرف علي حقيقة الشيء أو مضمونه , إلا أن هذا لا يعني مجرد توصيل المضمون المباشر له , بل يمتد إلي ما يرتبط به من صفة أو صفات . فلو كنا بصدد تصوير جندي في ميدان القتال , فلا يكفي أن نضع الكاميرا في أي موضع يتيح لنا رؤية الجندى والتعرف عليه , بل ينبغي اختيار الوضع الذي يظهره بصفات التحفز والقوة ... وهذا يقودنا إلي تخفيض مستوي الكاميرا حتى نري الجندي من أسفل إلي أعلي بما يكسب تكوينه الجسماني ديناميكية تضفي عليه صفات تتجاوز مجرد مظهره كجندي . وبالمثل لو أننا بصدد تصوير شيء بسيط كباقة من الزهور مثلا , فلا يكفي أن نصورها بما يظهر حقيقتها المادية المباشرة , بل سنسعى نحو اختيار الوضع الذى يضفى عليها صفات الجمال, والذي قد يكون أعلى من مستوى النظر قليلاً . وفى هذا الخصوص أفصح أحد مخرجي السينما الأمريكية " ادوارد ديميترى " أنه اعتاد أن يصور اللقطة القريبة لوجه الشخصية من أسفل قليلاً , حيث أن هذا الوضع يظهر تعبير العينين بتأثير أقوى من حالة التصوير من مستوى النظر ...
بالإضافة إلى كل ذلك , فإن المخرج يضع فى اعتباره أنه يتعامل مع صورة تكتسب صفات تشكيلية تنبع من حقيقة أنها مسطحة , وأنها تعرض داخل إطار محدد. ومن ثم فإن هذا يفرض عليه أن يسعى إلى إشباع مشاعر المتفرج بالتذوق الجمالي لها من خلال ترتيب عناصرها وتحديد علاقاتها ببعضها البعض من ناحية تكوينها التشكيلي العام من ناحية أخرى .