تطور مقاربات الجمهور
لقد تبين من خلال عرض بعض الجوانب النظرية و المفاهيمية المتعلقة بجمهور وسائل الإعلام و الدراسات الخاصة به أن الباحثين المهتمين بهذا الميدان لا يتعاملون مع أنموذج واحد أو مقاربة واحدة للاتصال الجماهيري ولكنهم يعالجون شيئا أكثر بقليل من مجموعة من التطلعات البديلة.
إن الدراسات الإعلامية لم تتوصل بعد إلى اعتماد أدبيات موحدة فهناك مثلا مصطلحات من مثل "دراسات الاتصال الجماهيري" ، "علوم الإعلام و الاتصال" مجودة في الأدبيات الغربية و قد يعود تنوع مصطلحات الإعلام و الاتصال إلى عدم التوصل بعد إلى صياغة نظريات تعيد بلورة مبدأ تداخل العلوم الذي تم التخلي عنه منذ انفصال العلوم الأخرى عن الفلسفة واعتماد فلسفة التخصص و النماذج المتبعة في البحث العلمي الإعلامي و واقعه حتى في الدول المتقدمة لم تتوصل بعد إلى صياغة "كيان نظري متكامل لعلم الاتصال" باعتباره أحد العلوم المستقبلية غير أن هذا الأمر لم يوجد له مثيل في الدول الانتقالية و في مقدمتها الدول العربية و الراجح أن هناك عديد من المحاولات النادرة التي قام بها بعض الباحثين العرب في ميدان الدراسات الإعلامية لم تنشر على نطاق واسع لأسباب عدة لعل أن في مقدمتها أن الحقائق المتعلقة بالواقع الاجتماعي و لو أنها نسبية و لا تنتمي للعلوم الصحيحة الأمر الذي يلغي الحرية العلمية المتمثلة في حرية الفكر و حرية البحث العلمي و التعبير عن النتائج و النشر.
و من هنا يبقى المصدر الوحيد للدراسات النظرية و الإمبريقية ذات المصداقية و الدلالة العلمية هو المجتمعات المتطورة التي جعلت من العلم و المعرفة و التكنولوجيات الروافد الأساسية و الآمنة لنهضتها و استمرارها في النهوض و التطور الدائم في الزمن و المكان .
لكن عند محاولة توظيف هذه المعارف العلمية فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية و الاجتماعية تطرح أمام الباحثين تحديات ابستيمولوجية كبرى من نوع آخر ، و تواجه محاولات تأصيل و توظيف مناهج بحث نشأت في بيئات ثقافية و اجتماعية و نفسية معينة من أجل تحقيق أهداف مغايرة و تعدد النماذج و النظريات و المقاربات و الأساليب المنهجية مكن من تراكم تراث نظري و منهجي متطور تطورا تصاعديا.
خلفية التاريخ الطبيعي لأبحاث التأثير :
تجدر الإثارة في هذا التذكير التاريخي إلى هذا التقسيم الذي يبدو مساير للتسلسل الزمني إذ هو محاولة قراءة التطور الذي مهدته أبحاث الجمهور عبر مختلف المراحل التاريخية انطلاقا من وقائع الوضع الراهن و تدخلت عوامل محيطية لعبت دورا بارزا في رسم معالم مميزة لتاريخ نظريات التأثير وهيكلة فعل التلقي و تفكيك البيئة الاجتماعية بتصور نموذج اتصالي جزئي لجمهور مجزأ ومحاولة تخطي الوجود المادي للجمهور و تبني السلوك المعبر عن هذا الوجود اللامادي في العالم الإلكتروني إذ يعتبر هذا الجمهور له قدرة التواجد في كل مكان وفي نفس الزمان .
ومن أبرز تلك العوامل المساعدة، مصالح الحكومات والمشرعين واحتياجات الصناعات ونشاطات الجماعات الضاغطة واهتمامات مروجي الدعاية السياسية والتجارية وتنامي دور الرأي العام في الحياة السياسية و الاجتماعية و موطنة العلوم الاجتماعية التي تضفي نوعا من الطابع العلمي يخرجها قليلا من الدائرة الإيديولوجية .
وقبل القيام بتصنيف تراث أبحاث الجمهور من المفيد إبراز أهم المحطات في هذا التاريخ الطبيعي لأبحاث الجمهور:
1.ما قبل التحريات العلمية:
تمتد هذه المرحلة من بداية القرن العشرين إلى أواخر الثلاثينات منه ويمكن أن يطلق عليها مرحلة ما قبل التحريات أو التحقيقات العلمية حيث كانت المحاولات التي تتناول العلاقة بين ما تبثه وسائل الإعلام والجمهور المتلقي عبارة عن انطباعات أراء ونظريات ذاتية أكثر منها استنتاجات لتحليل وقائع موضوعية .
في هذه المرحلة كانت النضرة لوسائل الإعلام أنها مصدر لقوى خفية خارقة تعمل على صقل الرأي و الاعتقادات وفقا لإرادة أولئك الذين يملكون سلطة الرقابة على هذه الوسائل و توجبه نشاطاتها نحو مواضيع معينة ويمتلكون قوة الـتأثير و لم تكن هذه الأفكار قائمة على أساس تحريات علمية بل مجرد أراء مستوحاة من الملاحظة الشعبية التي تكتسبها الصحافة و الوسائط الجديدة و ما زاد في ترسيخ فكرة التأثير تدعيم المعلن و الحكومات الإمبراطورية في أوربا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. خاصة النطاق الواسع الذي شهده الراديو و التلفزيون إذ أن أول نوع من التآلف مع هذه الوسائل تتضمنه "نظرية المعنى العام" التي تشير إلى الأفكار التي يكونها عامة الناس حول موضوع معين و المستمدة أساسا من التجربة المباشرة و الاستعمال الشخصي لهذه الوسائل و الانطباعات التي تولدها هذه التجربة و يثير هذا الاستعمال، و قد أثارت مؤشرات فضاء الاتصال و الإعلام الجديد فضول الباحثين المهتمين بمتابعة ظواهر الحياة الاجتماعية و ملاحظة التغيرات المتتالية وخاصة التأثيرات الحاصلة في سلوك الناس فجاءت البدايات الأولى للتحريات الموضوعية في مجال البحث الإعلامي تحاول توظيف خلاصات التأملات النظرية و التجارب المنهجية التي كانت قد توصلت إليها مختلف فروع المعرفة الاجتماعية و النفسية لا سيما السوسيولوجيا العامة والسيكولوجية الفردية والاجتماعية في تفسير الظواهر الجديدة و العلاقات القائمة و الممكن قيامها بين مختلف التغيرات التي أسندت لوسائل الإعلام.
فقد تميزت الدراسات الإعلامية منذ انطلاقتها الأولى بالتوجه السوسيولوجي و السيكولوجي الاجتماعي بالدرجة الأولى،هذا التوجه الذي يلازمها عبر تاريخها الطبيعي .
و الأحداث الكبرى التي شهدتها تلك المرحلة الأولى عجلت إيجاد مناهج وتقنيات جديدة لفهم و تفسير مكانة دور وسائل الإعلام أسست لبروز اتجاه امبريقي سيسمح بتجاوز قصور انطباعات المعرفة العلمية و الأفكار التأملية و النمطية النظرية على تفسير الظاهرة الاتصالية الجديدة .
2.مرحلة التحريات العلمية :
ظهر في سياق الاعتقادات و التفكير مع بداية العشرية الرابعة من القرن الماضي نوع جديد من التحريات أسس لدخول البحث العلمي في مجال الجمهور استنادا إلى منهج المسح و التجربة الخبرية ويعتمد على خلاصات علم النفس الاجتماعي و الرياضيات و الإحصاء و السير ينقيا.
وقد أجريت دراسات امبريقية متفرقة على تأثير أنواع من المحتوى خاصة الأفلام وبرامج الحملات الانتخابية و الإشهارية وهذا ما قام به "لازارسفالد" حول دور الصحافة في الحملة الانتخابية لرئاسيات 1940 وتأثير الفيلم السينمائي على الجنود الأمريكيين.
وقد أسندت تلك الدراسات ابتداء من دراسة "لازارسفالد" و "كاتز" دورا متواضعا لوسائل الإعلام في إحداث التأثيرات المتوقعة أو غير المنتظرة وغير المرغوب فيها لخصت في دراسة حول أبحاث الجمهور للباحث "جوزاف كلابر" سنة 1962 وفيه العبارة "إن وسائل الاتصال لا تعمل عادة كسبب ضروري وكاف للتأثير في الجمهور ولكن بالأحرى تعمل ضمن جملة من عوامل التبليغ الوسيطة المترابطة ".
ولم يكن سهلا أن تتغير الآراء خارج المجتمع العلمي الاجتماعي وكان من الصعب أيضا قبول هذه الأفكار الجديدة (إن وسائل الإعلام يحدث في كل الظروف نفس التأثيرات البالغة) بالنسبة لأولئك الذين تعودوا على تصميم الحملات الإشهارية و الدعائية على أساس الأفكار السابقة ومحترفي الإعلام الذين كانوا يؤمنون بالقوى السحرية لوسائل مهنتهم وقد سلم العديد من الباحثين ابتداء من الستينات بممارسة وسائل الإعلام لنوع من التأثير يحدث غالبا على المدى البعيد وقد اتسع هذا التفكير بانتشار التلفزيون كوسيلة تكنولوجية منزلية وحيدة وهي تعتبر ميزة القرن الماضي إلى أن ظهر الحاسوب الشبكات العالمية " الانترنت " في عملية تفاعلية متمايزة لم يسبق لها مثيل في تاريخ دراسات تأثير تكنولوجيات الاتصال الحديثة و أدخلت أبعاد جديدة التعرض التزامني و اللاتزامني وأنماط السلوك الاتصالي وقد استمرت هذه المرحلة من التنظير إلى أن جاء"Morley" و تكلم حول الجيل الثالث من دراسات التلقي إلى جانب "دانيال ميلر" و "دون سلايتز" تتعلق بالمقاربة الاثنوغرافية لتحليل استعمال الانترنت في بيئات سوسيوثقافية مختلفة.
وقد طرح التساؤلات حول كيف أن ثقافة معينة تحاول أن تستمر في "منزلها" في المحيط الاتصالي السريع التحول (غير المستقر) و كيف يمكن لهذه الثقافة أن تكيف وتدمج هذا الوسيط في خصوصياتها المحلية و تطوعه لخدمة عملية التعولم و معرفة الآثار (التأثيرات المتبادلة )بين تلك العناصر المدمجة واستمر التفكير في وجود "تأثير " و "تأثير قوي " الذي يطبع بين رسائل الإعلام و الجمهور وخاصة درجة التعرض لها وقياس التغيير (نوع التغيير ) أو نقل نوع التنوع أي تغير المواقف و الآراء و الأفكار.
3.ما بعد التحريات العلمية :
بعد عرض حول دراسات تأثير وسائل الإعلام في الجمهور ولكن الأجدر قوله أن وسائل الإعلام لا تتوفر في ذاتها على قوة تأثير ولكن يتوقف الأمر على اعتقاد الناس في قدرتها على التغيير مجرى الأحداث و الأفكار و الاتجاهات و كان كاري (1978) قد حاول تفسير إشكالية التأثير و درجاته و اللاتأثير و حدوده بتغيير الاعتقاد في قدرة وسائل الإعلام .
فقد ناد الاعتقاد في قدرة وسائل الإعلام الجماهيري على التأثير البالغ في فترة الثلاثينيات تحت ظل ضغوطات نفسية و تيارات السياسية وفرت أجواء الحرب و خلقت الأرضية خصبة لإنتاج بعض أنواع التأثير فحين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات شهدت توترات دولية نتيجة الحروب العربية الإسرائيلية (1967/1973) و أزمتي البترول سنتي (1973- 1985) و زيادة الصراع الأيديولوجي (إ.س / و.م.أ) إضافة إلى سقوط جدار برلين (1989) و غيرها من الأزمات التي عرضت البنيات الاجتماعية للاهتزازات و جعلتها أكثر حساسية لوسائل الاتصال الجماهيري خاصة و أن هذه الوسائل تكاد تحتكر الحقائق و الأراء حول الوقائع لا سيما القنوات التلفزيونية الفضائية الآنية و المواقع الالكترونية المتخصصة على الانترنت .
غير أن بعض الباحثين يعتقدون أن الأمر لا يتعلق بقدرة وسائل الاعلام على التأثير بقدر ما يتعلق باجتماع أسباب قد تكون مصادفة زمنية جعلت وسائل الاعلام تبدو بتلك القوة في مرحلة تاريخية معينة.
مما يزيد في تلك الفتراضية لوسائل الاعلام الجماهيري أن الحكومات و أصحاب الماليستعملون وسائل الاعلام في محاولة التأثير على الناس و مراقبة و توجيه سلوكهم هذا يعني أن وسائل الاعلام يمكن أن تكون في ظروف تاريخية ،نفسية ،اجتماعية ،اقتصادية ذات قوة بالغة بالنظر الى الاستجابات الفورية أو المتوسطة التي يبديها الناس ازاء الدعوات الهادفة الى تغيير المواقف و الآراء في اتجاه يخدم مصالح هذه الأطراف
منقووووول
لقد تبين من خلال عرض بعض الجوانب النظرية و المفاهيمية المتعلقة بجمهور وسائل الإعلام و الدراسات الخاصة به أن الباحثين المهتمين بهذا الميدان لا يتعاملون مع أنموذج واحد أو مقاربة واحدة للاتصال الجماهيري ولكنهم يعالجون شيئا أكثر بقليل من مجموعة من التطلعات البديلة.
إن الدراسات الإعلامية لم تتوصل بعد إلى اعتماد أدبيات موحدة فهناك مثلا مصطلحات من مثل "دراسات الاتصال الجماهيري" ، "علوم الإعلام و الاتصال" مجودة في الأدبيات الغربية و قد يعود تنوع مصطلحات الإعلام و الاتصال إلى عدم التوصل بعد إلى صياغة نظريات تعيد بلورة مبدأ تداخل العلوم الذي تم التخلي عنه منذ انفصال العلوم الأخرى عن الفلسفة واعتماد فلسفة التخصص و النماذج المتبعة في البحث العلمي الإعلامي و واقعه حتى في الدول المتقدمة لم تتوصل بعد إلى صياغة "كيان نظري متكامل لعلم الاتصال" باعتباره أحد العلوم المستقبلية غير أن هذا الأمر لم يوجد له مثيل في الدول الانتقالية و في مقدمتها الدول العربية و الراجح أن هناك عديد من المحاولات النادرة التي قام بها بعض الباحثين العرب في ميدان الدراسات الإعلامية لم تنشر على نطاق واسع لأسباب عدة لعل أن في مقدمتها أن الحقائق المتعلقة بالواقع الاجتماعي و لو أنها نسبية و لا تنتمي للعلوم الصحيحة الأمر الذي يلغي الحرية العلمية المتمثلة في حرية الفكر و حرية البحث العلمي و التعبير عن النتائج و النشر.
و من هنا يبقى المصدر الوحيد للدراسات النظرية و الإمبريقية ذات المصداقية و الدلالة العلمية هو المجتمعات المتطورة التي جعلت من العلم و المعرفة و التكنولوجيات الروافد الأساسية و الآمنة لنهضتها و استمرارها في النهوض و التطور الدائم في الزمن و المكان .
لكن عند محاولة توظيف هذه المعارف العلمية فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية و الاجتماعية تطرح أمام الباحثين تحديات ابستيمولوجية كبرى من نوع آخر ، و تواجه محاولات تأصيل و توظيف مناهج بحث نشأت في بيئات ثقافية و اجتماعية و نفسية معينة من أجل تحقيق أهداف مغايرة و تعدد النماذج و النظريات و المقاربات و الأساليب المنهجية مكن من تراكم تراث نظري و منهجي متطور تطورا تصاعديا.
خلفية التاريخ الطبيعي لأبحاث التأثير :
تجدر الإثارة في هذا التذكير التاريخي إلى هذا التقسيم الذي يبدو مساير للتسلسل الزمني إذ هو محاولة قراءة التطور الذي مهدته أبحاث الجمهور عبر مختلف المراحل التاريخية انطلاقا من وقائع الوضع الراهن و تدخلت عوامل محيطية لعبت دورا بارزا في رسم معالم مميزة لتاريخ نظريات التأثير وهيكلة فعل التلقي و تفكيك البيئة الاجتماعية بتصور نموذج اتصالي جزئي لجمهور مجزأ ومحاولة تخطي الوجود المادي للجمهور و تبني السلوك المعبر عن هذا الوجود اللامادي في العالم الإلكتروني إذ يعتبر هذا الجمهور له قدرة التواجد في كل مكان وفي نفس الزمان .
ومن أبرز تلك العوامل المساعدة، مصالح الحكومات والمشرعين واحتياجات الصناعات ونشاطات الجماعات الضاغطة واهتمامات مروجي الدعاية السياسية والتجارية وتنامي دور الرأي العام في الحياة السياسية و الاجتماعية و موطنة العلوم الاجتماعية التي تضفي نوعا من الطابع العلمي يخرجها قليلا من الدائرة الإيديولوجية .
وقبل القيام بتصنيف تراث أبحاث الجمهور من المفيد إبراز أهم المحطات في هذا التاريخ الطبيعي لأبحاث الجمهور:
1.ما قبل التحريات العلمية:
تمتد هذه المرحلة من بداية القرن العشرين إلى أواخر الثلاثينات منه ويمكن أن يطلق عليها مرحلة ما قبل التحريات أو التحقيقات العلمية حيث كانت المحاولات التي تتناول العلاقة بين ما تبثه وسائل الإعلام والجمهور المتلقي عبارة عن انطباعات أراء ونظريات ذاتية أكثر منها استنتاجات لتحليل وقائع موضوعية .
في هذه المرحلة كانت النضرة لوسائل الإعلام أنها مصدر لقوى خفية خارقة تعمل على صقل الرأي و الاعتقادات وفقا لإرادة أولئك الذين يملكون سلطة الرقابة على هذه الوسائل و توجبه نشاطاتها نحو مواضيع معينة ويمتلكون قوة الـتأثير و لم تكن هذه الأفكار قائمة على أساس تحريات علمية بل مجرد أراء مستوحاة من الملاحظة الشعبية التي تكتسبها الصحافة و الوسائط الجديدة و ما زاد في ترسيخ فكرة التأثير تدعيم المعلن و الحكومات الإمبراطورية في أوربا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. خاصة النطاق الواسع الذي شهده الراديو و التلفزيون إذ أن أول نوع من التآلف مع هذه الوسائل تتضمنه "نظرية المعنى العام" التي تشير إلى الأفكار التي يكونها عامة الناس حول موضوع معين و المستمدة أساسا من التجربة المباشرة و الاستعمال الشخصي لهذه الوسائل و الانطباعات التي تولدها هذه التجربة و يثير هذا الاستعمال، و قد أثارت مؤشرات فضاء الاتصال و الإعلام الجديد فضول الباحثين المهتمين بمتابعة ظواهر الحياة الاجتماعية و ملاحظة التغيرات المتتالية وخاصة التأثيرات الحاصلة في سلوك الناس فجاءت البدايات الأولى للتحريات الموضوعية في مجال البحث الإعلامي تحاول توظيف خلاصات التأملات النظرية و التجارب المنهجية التي كانت قد توصلت إليها مختلف فروع المعرفة الاجتماعية و النفسية لا سيما السوسيولوجيا العامة والسيكولوجية الفردية والاجتماعية في تفسير الظواهر الجديدة و العلاقات القائمة و الممكن قيامها بين مختلف التغيرات التي أسندت لوسائل الإعلام.
فقد تميزت الدراسات الإعلامية منذ انطلاقتها الأولى بالتوجه السوسيولوجي و السيكولوجي الاجتماعي بالدرجة الأولى،هذا التوجه الذي يلازمها عبر تاريخها الطبيعي .
و الأحداث الكبرى التي شهدتها تلك المرحلة الأولى عجلت إيجاد مناهج وتقنيات جديدة لفهم و تفسير مكانة دور وسائل الإعلام أسست لبروز اتجاه امبريقي سيسمح بتجاوز قصور انطباعات المعرفة العلمية و الأفكار التأملية و النمطية النظرية على تفسير الظاهرة الاتصالية الجديدة .
2.مرحلة التحريات العلمية :
ظهر في سياق الاعتقادات و التفكير مع بداية العشرية الرابعة من القرن الماضي نوع جديد من التحريات أسس لدخول البحث العلمي في مجال الجمهور استنادا إلى منهج المسح و التجربة الخبرية ويعتمد على خلاصات علم النفس الاجتماعي و الرياضيات و الإحصاء و السير ينقيا.
وقد أجريت دراسات امبريقية متفرقة على تأثير أنواع من المحتوى خاصة الأفلام وبرامج الحملات الانتخابية و الإشهارية وهذا ما قام به "لازارسفالد" حول دور الصحافة في الحملة الانتخابية لرئاسيات 1940 وتأثير الفيلم السينمائي على الجنود الأمريكيين.
وقد أسندت تلك الدراسات ابتداء من دراسة "لازارسفالد" و "كاتز" دورا متواضعا لوسائل الإعلام في إحداث التأثيرات المتوقعة أو غير المنتظرة وغير المرغوب فيها لخصت في دراسة حول أبحاث الجمهور للباحث "جوزاف كلابر" سنة 1962 وفيه العبارة "إن وسائل الاتصال لا تعمل عادة كسبب ضروري وكاف للتأثير في الجمهور ولكن بالأحرى تعمل ضمن جملة من عوامل التبليغ الوسيطة المترابطة ".
ولم يكن سهلا أن تتغير الآراء خارج المجتمع العلمي الاجتماعي وكان من الصعب أيضا قبول هذه الأفكار الجديدة (إن وسائل الإعلام يحدث في كل الظروف نفس التأثيرات البالغة) بالنسبة لأولئك الذين تعودوا على تصميم الحملات الإشهارية و الدعائية على أساس الأفكار السابقة ومحترفي الإعلام الذين كانوا يؤمنون بالقوى السحرية لوسائل مهنتهم وقد سلم العديد من الباحثين ابتداء من الستينات بممارسة وسائل الإعلام لنوع من التأثير يحدث غالبا على المدى البعيد وقد اتسع هذا التفكير بانتشار التلفزيون كوسيلة تكنولوجية منزلية وحيدة وهي تعتبر ميزة القرن الماضي إلى أن ظهر الحاسوب الشبكات العالمية " الانترنت " في عملية تفاعلية متمايزة لم يسبق لها مثيل في تاريخ دراسات تأثير تكنولوجيات الاتصال الحديثة و أدخلت أبعاد جديدة التعرض التزامني و اللاتزامني وأنماط السلوك الاتصالي وقد استمرت هذه المرحلة من التنظير إلى أن جاء"Morley" و تكلم حول الجيل الثالث من دراسات التلقي إلى جانب "دانيال ميلر" و "دون سلايتز" تتعلق بالمقاربة الاثنوغرافية لتحليل استعمال الانترنت في بيئات سوسيوثقافية مختلفة.
وقد طرح التساؤلات حول كيف أن ثقافة معينة تحاول أن تستمر في "منزلها" في المحيط الاتصالي السريع التحول (غير المستقر) و كيف يمكن لهذه الثقافة أن تكيف وتدمج هذا الوسيط في خصوصياتها المحلية و تطوعه لخدمة عملية التعولم و معرفة الآثار (التأثيرات المتبادلة )بين تلك العناصر المدمجة واستمر التفكير في وجود "تأثير " و "تأثير قوي " الذي يطبع بين رسائل الإعلام و الجمهور وخاصة درجة التعرض لها وقياس التغيير (نوع التغيير ) أو نقل نوع التنوع أي تغير المواقف و الآراء و الأفكار.
3.ما بعد التحريات العلمية :
بعد عرض حول دراسات تأثير وسائل الإعلام في الجمهور ولكن الأجدر قوله أن وسائل الإعلام لا تتوفر في ذاتها على قوة تأثير ولكن يتوقف الأمر على اعتقاد الناس في قدرتها على التغيير مجرى الأحداث و الأفكار و الاتجاهات و كان كاري (1978) قد حاول تفسير إشكالية التأثير و درجاته و اللاتأثير و حدوده بتغيير الاعتقاد في قدرة وسائل الإعلام .
فقد ناد الاعتقاد في قدرة وسائل الإعلام الجماهيري على التأثير البالغ في فترة الثلاثينيات تحت ظل ضغوطات نفسية و تيارات السياسية وفرت أجواء الحرب و خلقت الأرضية خصبة لإنتاج بعض أنواع التأثير فحين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات شهدت توترات دولية نتيجة الحروب العربية الإسرائيلية (1967/1973) و أزمتي البترول سنتي (1973- 1985) و زيادة الصراع الأيديولوجي (إ.س / و.م.أ) إضافة إلى سقوط جدار برلين (1989) و غيرها من الأزمات التي عرضت البنيات الاجتماعية للاهتزازات و جعلتها أكثر حساسية لوسائل الاتصال الجماهيري خاصة و أن هذه الوسائل تكاد تحتكر الحقائق و الأراء حول الوقائع لا سيما القنوات التلفزيونية الفضائية الآنية و المواقع الالكترونية المتخصصة على الانترنت .
غير أن بعض الباحثين يعتقدون أن الأمر لا يتعلق بقدرة وسائل الاعلام على التأثير بقدر ما يتعلق باجتماع أسباب قد تكون مصادفة زمنية جعلت وسائل الاعلام تبدو بتلك القوة في مرحلة تاريخية معينة.
مما يزيد في تلك الفتراضية لوسائل الاعلام الجماهيري أن الحكومات و أصحاب الماليستعملون وسائل الاعلام في محاولة التأثير على الناس و مراقبة و توجيه سلوكهم هذا يعني أن وسائل الاعلام يمكن أن تكون في ظروف تاريخية ،نفسية ،اجتماعية ،اقتصادية ذات قوة بالغة بالنظر الى الاستجابات الفورية أو المتوسطة التي يبديها الناس ازاء الدعوات الهادفة الى تغيير المواقف و الآراء في اتجاه يخدم مصالح هذه الأطراف
منقووووول